بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، و الصلاة والسلام على سيِّدنا محمد الصادق الوعد الأمين.


الدنيا أهون على الله من أن تكون عقاباً للكافر أو مكافأة للمؤمن:


عن جابر رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرّ بالسوق والناس كَنَفَتَيْ ه, فمر بجدي أسكَّ ميت, فتناوله بأذنه, ثم قال: «أيُّكم يحب أن هذا له بدرهم؟» فقالوا: "ما نحب أنه لنا بشيء، وما نصنع به؟" قال: «أتحبون أنه لكم؟» قالوا: "والله لو كان حياً كان عيباً فيه لأنه أسك، فكيف وهو ميت؟ فقال عليه الصلاة والسلام: «والله للدنيا أهون على الله من هذا عليكم» (أخرجه مسلم وأبو داود عن جابر بن عبد الله).


هذا كلام النبوة، هذا كلام الذي لا ينطق على الهوى، شاةٌ ميتة وأذنها أسك أي (صغيرة)، وهذا عيب.
والحديث الآخر المعروف:
«لو كانت الدنيا تَعْدِلُ عند الله جَناح بعوضةٍ ما سَقَى كافراً منها شَربة ماءٍ» (أخرجه مسلم وأبو داود عن جابر بن عبد الله).

إنها أهون على الله من أن تكون عقاباً للكافر، أو أن تكون مكافأة للمؤمن؛ لأنها محدودة، ولأنها زائلة، ولأنها منقطعة بالموت، فعطاء الله لا يمكن أن يكون منقطعاً بالموت، عطاء الله للأبد، فالدنيا ليست من عطاء الله عزَّ وجلَّ.

فالنبي يقدم مثلاً لا أحد يحبه؛ جيفة، فطيسة:
«أيُّكم يحب أن هذا له بدرهم؟» فقالوا: "ما نحب أنه لنا بشيء، وما نصنع به؟" قال:«أتحبون أنه لكم؟» قالوا: "والله لو كان حياً كان عيباً فيه لأنه أسك، فكيف وهو ميت؟ فقال عليه الصلاة والسلام:«والله للدنيا أهون على الله من هذا عليكم».

الرزق و الكسب:
وعن عبد الله رضي الله عنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ: {أَلْهَاكُم ُ التَّكَاثُ رُ}
ألهاكم كما قال عليه الصلاة والسلام: (أي الإنسان انشغل بشيء خسيس عن شيء نفيس, أنت في الدنيا من أجل أن تعرف الله, من أجل أن تدفع ثمن الجنَّة وهو العمل الصالح, من أجل أن يكون لك عمل تلقى الله به, من أجل أن تكون في دار السلام بسلام): أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ: {أَلْهَاكُم ُ التَّكَاثُ رُ}
قال: «يقول ابن آدم: مالي مالي، وهل لك يا بن آدم من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت؟» (أخرجه مسلم والترمذي والنسائي عن عبد الله بن الشخير).

صار هناك تقسيمان؛ مال، و كسب، أو الأصح رزق، وكسب؛ الرزق ما انتفعت به، والكسب ما لا تنتفع به.

فالإنسان مستهلكاته من الطعام والشراب، مستهلكاته من الثياب، الغرفة التي يسكنها، السرير الذي ينام عليه، الثياب التي يلبسها، الطعام الذي يأكله، هذا رزقه، أما حجمه المالي فكسبه، حجمه المالي لا يقدم ولا يؤخر، لم ينتفع به، إنما يُحاسب عليه، لم تنتفع به، لكنك تحاسب عليه، أما الذي انتفعت به فهو رزقك، الذي انتفعت به ثلثاه زائد، الذي أكلته أفنيته، والذي لبسته أبليته، بقي الذي أنفقته، صار التقسيم كسباً ورزقاً؛ الرزق ما أكلته فأفنيته فان، ما لبسته فأبليته فان، من الرزق ما أنفقته هو الذي يبقى، وهذا الذي ينفعك يوم القيامة.

المفارقة الحادة بين إنسان ترك كل شيء وإنسان أخذ كل شيء:
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يتبع الميت ثلاثاً: أهله, وماله, وعمله, فيرجع اثنان ويبقى واحد؛ يرجع أهله وماله, ويبقى عمله» (أخرجه البخاري ومسلم والترمذي عن أنس بن مالك).

أحياناً يموت إنسان من أغنياء الناس، من كبار الأغنياء، أحياناً يموت عالم، تشعر أن الغني حينما مات ترك كل شيء، وأن الذي أمضى حياته في طاعة الله، وفي العمل الصالح، وفي خدمة هذا الدين، حينما يموت أخذ معه كل شيء، مفارقة كبيرة جداً، مفارقة حادة بين إنسان ترك كل شيء وإنسان أخذ كل شيء.

«يا علي: فَوَ اللَّهِ لَأَنْ يُهْدَى بِكَ رَجُلٌ وَاحِدٌ خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ » (متفق عليه عن سهل بن سعد).

و: «خير له مما طلعت عليه الشمس» (أخرجه الطبراني عن أبي رافع)


و:«خير لك من الدنيا وما فيها » (تخريج أحاديث الإحياء للعراقي).


دخلت إلى معمل في أمريكا، كل دقيقة سيارة، أرقى أنواع السيارات في أمريكا. كل دقيقة، السيارات تمشي على شريط، إذاً صاحب هذا المعمل كم ثروته؟

من عرف خطورة الحياة يعمل ليلاً نهاراً ليكسب عملاً صالحاً يرفع مقامه عند الله:
الإنسان إذا عرف خطورة الحياة لا ينام الليل، يعمل ليلاً نهاراً ليكسب أعمالاً صالحةً ترفع مقامه عند الله في الجنة، لا يوجد بالإيمان شيخوخة أبداً، يتعب جسمه، يصعد على الدرج بصعوبة، أما نفسه فشابة، الشباب المؤمن دائمًا نفسه شابة، لأن هدفه كبير جداً؛ مهما بذل من جهد، مهما سهر من ليل، مهما أنفق من مال،, يجد هذا العمل لا شيء أمام عطاء الله عز وجل، وأمام ما أعدّ له في الجنة من نعيم مقيم.
فلذلك الإنسان إذا كان بأي سن؛ كان بالأربعين، بالخمسين، بالستين، إذا كان له سير إلى الله عز وجل، يلاحظ إنساناً من سنه لكنه شارد، تجلس معه تجده فارغاً، ليس عنده عمل، كل شيء مارسه ملّ منه، تجده يملؤك يأساً، يملؤك مللاً، يملؤك ضجراً، لأنه ليس له هدف, إنسان بلا هدف، إنسان يقول لك: أمضي وقت، الوقت صار عليه عبء!

المؤمن لا يجد دقيقة، لا يجد خمس دقائق، لا يجد ساعة، هو في شباب دائم، أما ما دام هدفك أكبر من طاقاتك فأنت في شباب، حينما تستوعب نفسك أهدافك؛ بدأ الملل، وبدأ السام، وبدأ الضجر.

معقول إنسان يجلس على كرسي خيزران بقهوة عشر ساعات، يلعب بالطاولة، وعنده زوجة، وأهل، وأولاد!! يقرأ موضوعاً، يقرأ كتاباً، يقرأ القرآن، يحضر مجلس علم، يجلس مع أخوانه، يحدثهم عن الله عزَّ وجلَّ، اثنتا عشرة ساعة، ملل مخيف.

المؤمن في نشاط ذهني دائم:
أحياناً إذا تقاعد الإنسان يُصاب بمرض نفسي، كان بدائرة الاهتمام، كان له عمل، فلما نُحِّي عن عمله صار متقاعداً، هُمّش، لمَّا هُمّش اختل توازنه.
كشف الفرنسيون حقيقة نفذوها أن مدرسيِّ الجامعة عندما يبلغون الستين يكونون في أوج عطائهم، فالأنظمة عمياء، يتقاعد الإنسان، يكون في أوج عطائه، في أوج ملكاته، فوجدوا أنه من الخطأ الكبير أن يتقاعد أستاذ جامعة، يبقى في منصبه إلى أن يعتزل هو عن منصبه.
الآن يوجد في جامعات فرنسا أستاذ جامعة بالتسعين، بالخامسة والتسعين، بالمئة، لأنه كلما كبر صار أكثر نضجاً و عطاء، ومن كان يعمل بعقله عقله لا يخرف أبداً.

عندنا قاعدة: العضو الذي يعمل لا يضمر.
انظر المؤمن لأنه يصلي، ويقرأ القرآن، ويطلب العلم، قلّما يخرف، المؤمن في نشاط ذهني دائم، إذا طلب العلم يسمع، يتفاعل، يفكر، يتأمل، يقبل، يعترض، في نشاط ذهني، قام ليصلي كل يوم خمس أوقات؛ الفجر ركعتان، الظهر أربع، أول ركعتين فيهم قراءة، الثانيات لا يوجد فيهم قراءة؛ هناك ركوع، و سجود، و قعود، و قعود أخير، هذا كله نشاط ذهني، فقلّما تجد مؤمناً يخرف، لأنه في نشاط ذهني دائم.

من أخذ من الدنيا فوق ما يكفيه أخذ من حتفه وهو لا يشعر:
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«اللهم اجعل رزق آل محمد كفافاً» (أخرجه البخاري ومسلم والترمذي عن أبي هريرة).
ليس معنى هذا أن يكونوا فقراء، لكن ليس معناها أيضاً أنهم في غنى فاحش، هذا الغنى الفاحش ألهاك عن ذكر الله، صار مصيبة، الغنى المطغي مصيبة من أكبر المصائب.
فكان من عادتي أن أسأل كل إنسان عن عمله، وعن حاله، يقول: الحمد لله مستورة، إذا قال لي: مستورة، أقول له: لقد أصابتك دعوة النبي.
أي هذا أكمل حال، حال الكفاف، مصروفك يغطي حاجاتك، لكن عندك راحة بال، أما صاحب الأموال الطائلة، إدارتها، والقلق عليها، أحد أكبر أسباب المرض.
من أخذ من الدنيا فوق ما يكفيه أخذ من حتفه وهو لا يشعر، فالإنسان إذا كان عنده أموال طائلة، إدارتها وحدها تحتاج إلى فريق عمل، فإذا أدارها وحده كثيراً ما يصاب جسمه بخلل خطير، لأنه لن يتحمل.
الآن كم إنسان من رقم الضريبة صار معه جلطة؟! أحياناً يكلفونه بعشرين مليوناً فلا يتحمل، تجده مات بجلطة قلب، ضحية ضريبة، مات بسبب ضريبة، أما الذي رزقه كفاف، فهذا مستمتع بالحياة بأعلى درجة، دون أن تكون عبئاً عليه.
يوجد عندنا قاعدة بالمال، يوجد عندنا درج للمال، ويوجد عندنا خط أحمر، دون الخط المال بخدمتك، فوق الخط أنت في خدمته، أنت عبد له، فإذا كان دون الخط فهو في خدمتك؛ لذلك: من هو الشقي؟ من كان في خدمة ماله، من هو السعيد؟ من كان ماله في خدمته.
والحمد لله رب العالمين.

محمد راتب النابلسي.