وصايا لقمان التربوية


قال ابن كثير: اختلف السلفُ في لقمان عليه السلام: هل كان نبيًّا، أو عبدًا صالحًا من غير نبوة؟ على قولين، الأكثرون على الثاني؛ (تفسير القرآن العظيم (6/ 333)، قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَة َ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ﴾ [لقمان: 12]، والذي أجمع عليه العلماء أنه كان حكيمًا بحكمة الله، موصوفًا بالحكمة، وهي الإصابة في الأمور؛ فهي تقتضي العلمَ النافع والعمل بهذا العلم. وقد بدأ الله - تبارك وتعالى - بالتعريف بلقمان، ووصَفه بالحكمة والصلاح قبل الخوض في وصاياه لابنه؛ لإشعار القارئ بأهمية هذه الوصايا اللقمانية، فصاحبها ذو حكمة بالغة، وعقل بالغ راجح؛ ولذلك ذكَرَها الله في كتابه؛ ليَعمل بها المسلمون حتى تقوم الساعة، فليسَت مِن قبيل السرد، حاشا لله ذلك. وقد استعمل لقمان في هذا الموقف التربوي أسلوبَ الوعظ، وهو أسلوب يتمثَّل في التذكير بوجوه الخير، والزجر المُقترِن بالتخويف من وجوهِ الشَّرِّ بأسلوب رقيق تَغمره الرحمة، يَشعُر معه الموعوظ بخوف الواعظ عليه، وإشفاقه عليه، رحمة به، فتلمس الموعظة شغاف قلبه، وتَستقرُّ في وجدانه؛ لذلك يعدُّ هذا الأسلوب الذي استخدمه ذلك الرجل الموصوف مِن قِبَل الله بالحِكمة - من أفضل وأحكم الأساليب التي تستخدم في التوجيه والإرشاد قديمًا وحديثًا؛ لأن الإنسان - وخاصة الصغير - إذا أحسَّ حرص مَن يُرشده عليه، وإشفاقه به، تمسك بمَواعظه وتوجيهاته بحيث تُصبح اتجاهًا مِن اتجاهاته وعادة من عاداته. وهذه الوصايا عبارة عن تسْع مواعظ جمعْنَ في طياتها جميع مظاهر التربية، كما أن كل موعظة فيها أصل من الأصول التربوية التي يجب أن يَكتسبها الأولاد، وإذا أخل المربي بواحدة منها ولم يَكتسِبها الصبي اختلَّ ميزان التربية عند الصبي، وبان تأثيرها عليه، بحيث يُلاحَظ عليه هذا النقص، فانتبه أيها المربي إلى هذه الوصايا، واحرص عليها أشدَّ الحرص؛ فالمولى - تبارك وتعالى - لم يُهيِّئ لها سورة من سور القرآن، ولم يقدِّم لقائلها سُدًى، فانتبه وتيقَّظ. الوصية الأولى: قال تعالى عن لقمان: ﴿ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ﴾ [لقمان: 13] هي الأولى؛ فهي الأَولى والأهمُّ في أولويات المربي الراشد العاقل، فهي الغاية التي لها خُلق الإنسان، وهي وظيفته الأساسية؛ قال تعالى: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْس َ إِلَّا لِيَعْبُدُ ونِ ﴾ [الذاريات: 56]، والذي يَنشأ على عبادة غير الله فقد خسرَ دنياه وآخرته، وقضى عمره في همٍّ وغمٍّ وضيق وتعاسة؛ قال الله تعالى: ﴿ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُون َ ﴾ [الأنعام: 125]. لذلك أكَّد لقمان وصيته بعدَّة مؤكدات؛ ليشعر ابنه بأهميتها وخطورتها؛ منها قوله: ﴿ يَا بُنَيَّ ﴾ استرقاقًا واستعطافًا له؛ لجَذب انتباهِه لما سيُلقى عليه، فضلاً عن تقديم النهي وتصدُّره للوصية، وفصل أداته، فضلاً عن استخدام أداة التوكيد ﴿ إِنَّ ﴾، فضلاً عن اللام في قوله: ﴿ لَظُلْم ﴾، فضلاً عن إيراده سبب النهي وعلته، فضلاً عن تعظيم النهي وته***ه، وكان ذلك كله لما يعلمه ذلك الرجل الثاقب النظر من خطورة الشِّرك. الوصية الثاني: قال تعالى: ﴿ وَوَصَّيْن َا الْإِنْسَا نَ بِوَالِدَي ْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُه ُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِد َيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ ﴾ [لقمان: 14]، وقرَن لقمان بين هذه الوصية وبين عبادة الله وعدم الشرك به، وكثيرًا ما يَقرن الله - سبحانه وتعالى - بين عبادته وحده وبين برِّ الوالدَين؛ كقوله تعالى: ﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَا لِدَيْنِ إِحْسَانًا ﴾ [الإسراء: 23]، وجاء هذا الاقتران لبيان سموِّ منزلة الوالدَين. وبعد أن أوصى لقمان بالوالدَين يخصُّ أمَّه ببيان ما تُكابده وتعانيه من المشاق والمتاعب في أثناء الحمل؛ بحيث يتزايد ضَعفُها يومًا بعد يوم، وبعد الولادة لا يَزول، ويتجلى هذا العناء وتلك المشقة بأن تدخل ***دها في فترة الحضانة عامَين كاملين أيضًا من العناء والتعب النفسي والبدني، وقد لَخَّص لقمان هاتَين المرحلتين برغم ما يُعانيه الأب والأم من التعب والمشقة لأجل ولدهما حتى الموت؛ لأنهما يصل فيهما العناء والمشقة بالألم أقصى ما يكون، ويكون الولد فيهما أضعف ما يكون، يَخصُّهما بالذكر لاستعطاف الولد واسترقاقه ومخاطبة إحساسه ومشاعره، فيكون مع ذلك الوعظ أبلغ وأجدى لدى الصبي. ويُؤخذ من هذا الأسلوب ضرورة الأخذ به في مخاطبة الشباب؛ لما يُحدثه هذا الأسلوب لديهم من نتائج مُثمرة، فالشاب - وخاصة المراهق - تؤثر فيه الانفعالات أكثر مِن الأوامر، حتى ولو كانت مصحوبة بالدليل والحجَّة، فمِن الأفضل مخاطبة قلبه لا عقله. ويُستفاد من قوله تعالى: ﴿ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِد َيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ ﴾ [لقمان: 14]، أنَّ شكْر الوالدَين المُنعمين اللذين جعلهما الله سببًا في الحياة والوجود يأتي بعد شُكر مَن سبَّب الأسباب، وهذا يُشعِر بترتيب الواجبات والحقوق. فلُقمان في هذه الوصية يدعو ولدَه إلى أهمية الترابُط والتماسُك الاجتماعي، ويحثُّه على الصِّلات الاجتماعية ، بالإشارة إلى أهمها وأولاها، وهو برُّ الوالدَين. كما بيَّن له فضلهما ليحثَّه ويَدفعه إلى أهمية الاعتراف بالجَميل وردِّه، ويُبعده عن الجحود والنكران الذي يؤدِّي إلى البُغض والكراهية، اللذين يؤديان إلى العزلة والانقطاع عن الناس، وهذا ضد طبيعة الإنسان. وبعد أن قرن لقمان بين طاعة الله وطاعة الوالدَين وبِرِّهما، بيَّن له حدود هذه الطاعة؛ قال تعالى: ﴿ وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَ ا وَصَاحِبْه ُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُ مْ فَأُنَبِّئ ُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُون َ ﴾ [لقمان: 15]، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق مهما علا قدرُ هذا المخلوق، ولو كان أبًا أو أمًّا، فبيَّن له في الآية آداب معاملة الأبوَين الكافرين، فالإسلام لا يمنع من مصاحبتهما، والإحسان إليهما، والقيام عليهما، وطاعتهما طالما لن تَخرج عن طاعة الله. وفي هذا تأكيد لما ينبغي أن يكون عليه المربي في توجيهاته وإرشاداته مِن الدقَّة والوضوح وعدم التعميم، بل ميدان التربية يَقتضي التفصيل والإيضاح، وخاصة إذا كان المقصود مَن هم في مرحلة المُراهَقة والرشد. وتختتم هذه الوصية بمن يَنبغي مصاحبتهم ومُعاشرتهم واتباعهم بقوله تعالى: ﴿ وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ﴾ [لقمان: 15]؛ أي: المستحقين الاتباع هم الذين يَخصُّون الله بالعبادة، ويُخلِصون له في الطاعات وعمل الصالحات؛ لأن هؤلاء لا يأمرون إلا بمعروف، ولا يَنهون إلا عن مُنكَر، ففي اتباعهم الفوز بالدارَين، وهذا هو هدف التربية القرآنية. ويعزي لقمان بهذا التوجيه إلى خطورة الصداقة والاتباع بالنسبة لهذه المرحلة العمرية من حياة الأولاد؛ فالمراهق بخروجه من مرحلة الطفولة وما فيها من اتباع واعتماد شبه كلي على المربِّين إلى مرحلة الرشد والانخراط في الأعمال والاعتماد على النفس، فهو يُحاول التحرُّر من القيود التي يفرضها عليه الكبار، فيَنخرِط في جماعة الرفاق، فيتبع ما تُمليه عليه الجماعة مِن قيَم ومعايير للحُكم على السلوك. ومِن هنا يجب على المربِّين أن يَغرسوا ويبثُّوا في أذهان وقلوب أولادهم معايير الحكم على الأصدقاء واختيارهم؛ حتى لا ينخرطوا في جماعة فاسدة، فيَحصدوا ما زرع المربُّون من أسس ومبادئ تربوية. الوصية الثالثة: ﴿ يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَوَا تِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ﴾ [لقمان: 16]، بعد أن خاطب لقمان وجدان ابنه في الوصية السابقة، يَستكمِل هذا الخطاب في هذه الوصية، فيَبعث في نفسه الوازع على مراقبة حدود الله، والوقوف عند زواجره والتزام أوامره، بغضِّ النظر عن وجود الرقابة الخارجية من أفراد وقوانين وسلطات، وغير ذلك، ومن الثابت عمليًّا أنه لا نجاح لأي نظام رقابي لا يَرعى تَنمية رقابة الذات، فمع وجود القوانين واللوائح تَحدث الجرائم، منها ما يُكشف ويفتضح أمرها، ومنها ما تظل مستورة لا يعلم بها إلا الله، ناهيك عن جرائم العمل من تكاسل ورشوة وغيره، فلكل فرد خلوات وانفرادات مع نفسه، يستطيع من خلالها خرق الحدود والقوانين، بحيث لا يَردعه إلا استحضار رقابة الله له. ويجب أن يثبَّتَ هذا الوازعُ منذ الطفولة، ويُهتمَّ بتنمية وتوضيح معانيه، والتصريح به في سن المراهَقة، ذاك الطور الوجداني، وهذا ما فعَلَه ذاك الرجل الحكيم لقمان. الوصية الرابعة: ﴿ يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ ﴾ [لقمان: 17]: يوجِّه لقمان ابنه في هذه الوصية إلى أداء العبادات، وعمل الطاعات، واختصَّ الصلاة دون سائر العبادات؛ لأن الصلاة هي العبادة الجامعة لكل أنواع العبادات والطاعات من صوم وحج وإحسان وغيره؛ فالمصلي يقصد بيتًا من بيوت الله ليؤدي فيه الصلاة، كما يمتنع عن الطعام والشراب أثناءها، وما يفعله من حركات يُزكِّي بها عن نفسه، فضلاً عن أهميتها؛ حيث لم يفرضها الله على الأرض كغيرها من العبادات، وإنما فرضت في السماء بلا واسطة بين الله وبين المصطفى صلى الله عليه وسلم، فضلاً عن كونها العبادة التي لا عذر في تركها، فضلاً عن كونها أكثر العبادات أداءً؛ فهي تُقام في شريعة الإسلام خمس مرات في اليوم والليلة باستثناء النوافل؛ لذا اختصَّها لقمان بالذِّكر. وفي توجيهِ لقمان لابنه بإقامة الصلاة إصلاحٌ لنفسه وتهذيب لأخلاقياته ؛ فالمُصلِّي يَشعر بالراحة والطمأنينة من جراء الخشوع والسكون المصاحب لها، فضلاً عن أن تعاقُبَ الصلوات الواحدة تلو الأخرى تنميةٌ وترسيخ للرقابة التي سبقت الوصيةُ بها، كما أن المصلي لا يستطيع الشيطان أن يستحوذ عليه؛ لأنه يجدِّد العهد مع الله في كل صلاة، من استعاذة واستغفار، أضف إلى ذلك ما تُحدِثه صلاة الجماعة من ترابط وتماسُك اجتماعي، فضلاً عن تكوين علاقة اجتماعية قائمة على الأخوَّة الإيمانية لا تشُوبها شائبة من شوائب الدنيا ومصالحِها، ولو فتحنا في الكلام عن فوائد الصلاة لاحتاج الأمرُ إلى مجلدات؛ لغزارة فوائدها النفسية والبدنية والاجتماعي ة. ويُعلمنا لقمان في هذه الوصية أسلوبًا آخر من أساليب التربية، وهو أسلوب التعويد؛ وذلك من خلال أمر الأولاد بإقامة العبادات والطاعات قبل سنِّ التكليف؛ ليَعتادوها ويَألفوها، وكذا الحال مع شتى السلوكيات الإسلامية، وهذا هو مَقصد التربية، حيث يقصد منها جعل الأولاد يسلكون السلوكيات المنشودة تلقائيًّا، بحيث تصبح عادة لهم. الوصية الخامسة: قال تعالى: ﴿ وَأْمُرْ بِالْمَعْر ُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَر ِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ﴾ [لقمان: 17]، يوجه لقمان في هذه الوصية ابنه إلى ما يثبت ويرسِّخ عنده المعروف، ويمنع عنه المنكر؛ من خلال الدعوة إلى المعروف والنهي عن المنكَر؛ لأن الإنسان إذا ما دعا إلى شيء جمع عنه من المعلومات الكثير، واستخدم كل مداركه وقدراته في سبيل دعوته إليه، ومِن ثَمَّ فهو أولى الناس بالالتزام بهذا المعروف، وهذا هو الحال مع النهي عن المُنكَر؛ فالناهي عن شيء لا بدَّ أنه يعلم مضارَّه، فهو أجدر على اجتنابه، ومِن ثَمَّ تُصبِح هذه الوصية بمثابة الدرع الواقي والحِصن الحصين الذي يَحمي الأولاد من الزيغ والهلاك. فضلاً عن أن لقمان في هذه الوصية أيضًا يوجه ابنه إلى تحمل المسؤولية الاجتماعية ، فيوجهه إلى تحمُّل هموم مجتمعه، وعدم السلبية تجاه ما يَحدث في المجتمع من اجتناب المعروف وإتيان المُنكَر، فلا بد للمُلتزمين من دور في الإصلاح، وإلا فإن الفساد الاجتماعي ليس بمعزل عن مجتمعه، وكما يقول الله - تبارك وتعالى -: ﴿ وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُو ا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ [الأنفال: 25]. وكما عهدنا على ذلك الرجل الحكيم من الدقة والوضوح في وصاياه، فها هو بعد أن وجه ابنه للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يَترُكه بدون أن يذكر له الوسيلة التي تُعينه على أداء هذه الوصية، وهي تتمثل في الصبر؛ لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد يَجرَّان للقائم بهما معاداةً مِن بعض الناس، أو أذى من بعض الناس أيضًا، فإذا لم يلتزم بالصبر فإنه تقرب إلى أن يتركه، ويُعزِّز لقمان قيمة الصبر لابنه بقوله: ﴿ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ﴾ [لقمان: 17]؛ أي: من الأمور التي عزمها الله وأوجبها. وبه يدلنا لقمان على أسلوب ثالث من أساليب التربية، وهو أسلوب التعزيز، وهو تقوية التوجيه بأن يُضيف المربي إلى فعل الولد أو إلى التوجيه والإرشاد ما يُعزِّز ويقوِّي من اكتساب هذا التوجيه والتعوُّد عليه. الوصية السادسة: قال تعالى: ﴿ وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ﴾ [لقمان: 18]، بعد أن أنهى لقمان وصاياه الأصولية والتعبُّدي ة انتقل إلى لون آخر من ألوان التربية، وهو: الآداب في معاملة الناس، أو فن العلاقات العامة، كما يُسمَّى الآن. والصَّعَر: داء يُصيب الإبل فيَلوي عنقه، فاستعار هذا الأسلوب كناية عن التعالي والاستكبار على الناس، ليرفع ذلك الحكيم في نفس ابنه أن هذا السلوك الشاذ هو بمثابة داء نفسي يُصيب الإنسان مثل داء الصعَر الذي يُصيب الإبل، واستخدامُه لهذا الأسلوب في النهي عن الكِبر أبلغُ في التنفير منه والزجر عنه من استخدامه للنهي بدونه؛ فهو يخاطب وجدان ابنه كما أسلفنا، فيُشعره بأن هذا السلوك هو سلوك حيواني، ولا يسلكه الحيوان إلا إذا كان به مرض، فيجدُرُ بالإنسان المكرم المعافى ألا يسلك مثل هذا السلوك الذي تَنفِر منه الطباع. وهذا أسلوب رابع من أساليب التربية التي يُعلِّمها لنا الله إلى يوم القيامة على لسان ذلك الحكيم، فأسلوب التشبيه أسلوب تربوي فعال؛ لأنه يجمع بين مخاطبة العقول والنفوس، وهو عبارة عن توجيه للخير، أو نهي عن الشر، في أسلوب ضِمني غير مباشر، ولذلك فهو آكد وأبلغ في الاستخدام التربوي من كثير من الأساليب المباشرة. والكِبْر داء نفسي واجتماعي يَشعُر معه صاحبه بأنه أفضل من غيره، فيَسلك ما يُعبِّر عن هذا الشعور فيتأذى منه الناس لذلك، فهو أسلوب يثير الكراهية والبغضاء، ويَحمل النفوس على الحقد فيَقتُل معالم الأخوة الاجتماعية ، ويَصنع بدلاً من المحبة والألفة والمودة بين أفراد المجتمع الكراهيةَ والحقد، فتتفكَّك بذلك أواصر العلاقات الاجتماعية ، وتَزول هيبة المجتمع ووحدته من كثرة الخلافات والانشقاقا ت الاجتماعية التي يَجلبها هذا المرض في حال تفشِّيه. الوصية السابعة: قال الله تعالى: ﴿ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ﴾ [لقمان: 18]، نظرًا لخطورة التكبُّر والاستعلاء ومضارِّه الواضحة على الفرد والمجتمع، فقد كرَّر لقمان النهي عنه لابنه، ولكن في أسلوب مغ*** للسابق، لعدم إثارة الملل والرتابة، وهو في ذلك يعبر بقوله: ﴿ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا ﴾ مع أن المشي لا يكون إلا في الأرض، فقصد من المشي مع الناس على اختلاف ألوانهم وأشكالهم؛ أي: لا تمش مع الناس وأنت بينهم مختالاً مزهوًّا فخورًا بنفسك، بل أَلِنْ جانبَك، وتواضع لهم، فهو يُشعره بهذا الأسلوب أنه مساوٍ لجميع الناس الذين يمشون على الأرض. وبعد أن أنهى لقمان وصيته السابعة أتبع وصيته بأسلوب حكيم في شدة التنفير، وحيث إن سلوك الكِبر والفخر على الناس لا يرضاه الله ولا يحبه، وبالتالي لا يحب فاعله، فهذا الأسلوب جاء تأكيدًا وتعزيزًا للوصيتين السابقتين، بما لا يدع مجالاً للوقوع في هذا الدَّاء العُضال. ومنه نتعلَّمُ أن النهي عن السلوك الشائع أو الأمر بالسلوك الغائب يَنبغي أن يُكرَّر ويؤكَّد، ولكن بأسلوب لا يبعث على الملل؛ لأن التكرار يؤكد المعنى ويُرسِّخه، ولكن مع المغ***ة في الأسلوب، حتى لا يكون باعثًا على الرتابة والملل فتضيع ثمرته، وهذا التكرار هو الأسلوب الرابع من أساليب التربية التي استخدمها لقمان الحكيم مع ابنه. الوصية الثامنة: قال تعالى: ﴿ وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ ﴾ [لقمان: 19]، بعد أن انتهى لقمان من نهْي ابنه عن الأمور التي تجلب الكُرْه والبغضاء بين الناس، شرع في توجيهه إلى ما يبعث على الاحترام والألفة، وبعد أن بيَّن له آداب معاملة الناس أتبعه ببيان آدابه الخاصة به، والقصد: هو الاعتدالُ والتوسط في الأمور كلها؛ فهذه دعوةٌ للاعتدال في كافة الأمور دون إفراط ولا تفريط، فحياة الإنسان على ظهر الأرض قائمةٌ على الاقتصاد والاعتدال في كل مناحي الحياة، في الطعام والشراب، في النفقة والكساء، في مُعاشرة الخَلق، في النوم واليقظة، في السعي والعمل...، في كل شيء، ولكن لقمان خصَّ المشي بالاعتدال، وربما قصد منه أن المشي مجتمِع فيه أغلب شؤون الحياة، فمَن أكثر الطعام وأقلَّ من النوم لا يستطيع الاعتدال في المشي، وهكذا، ومَن أبطأ في المشي عرَّض نفسه للفتن، فربما وقع نظره على محرَّم؛ فالطرقات لا تخلو من الفتن، كما أن الإسراع ربما يؤدي إلى الهلكة، فالاقتصاد أولى، وربما خصَّ لقمان المشي بالذكر لأنه أظهر ما يلوح عن الفرد. الوصية الأخيرة: قال تعالى: ﴿ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ ﴾ [لقمان: 19]: هذه الوصية هي حثٌّ على الثقة بالنفس، وتنفير من سوء الأدب؛ فالصوت المرتفع دليل على ضعف حجَّة صاحبه، فهو يُحاول أن يُفحم المخاطب ويَحمله على رأيه بعلوِّ الصوت بدلاً من الحجة والإقناع؛ لذلك فهو شاكٌّ فيما يقول، لا يقدر شخصيته، يَشعُر مع ذلك بالنقص، فيُحاول أن يستعيض عن ذلك بالحدة والغلظة في القول، لذلك فهي وصية ضمنية بمثابة دعوة وحثٍّ على التثبُّت والتروِّي قبل الكلام، والوثوق بالنفس وتقدير الذات. وفي قوله: ﴿ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَا تِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ ﴾ [لقمان: 19]، لقمان بهذه الجملة يُزوِّد ابنه بالمعلومات في أثناء انشغاله بنُصحه وإرشاده، فجمَع فيها بين التنفير والتحذير من ارتفاع الصوت وبين إكساب المعلومات وتوسيع مدارك العقل. وما فعله لقمان يُنادي به التربويون اليوم، فهم ينبهون على أن المربي الجيد هو الذي يجمع بين التوجيه والإرشاد وبين التزويد بالمعلومات والبيانات.